من أرشيف الجيران : الحب في شعر الزهاوي بقلم الاديب الشاعر مراد ميخائيل*
الشاعر جميل صدقي الزهاوي لا اعرف شاعراً لم ينظم في الحب فكان هذا الغرض الشعري مكمل لكيانه و الشاعر عندما يفتح عينه ليرى ، ويبسط اجنحته ليطير يبحث عن الجمال بضروبه المختلفة و لكن جمال المرأة عنده بيت القصيد فيسعى ليستظل بامرأة يقدم لها عواطفه و اخيرا يتوفق فيما قصد اليه فقد تضع الاقدار امرأة في طريقه يقع نظره عليها فيحبها و ترميه بسهام لحظها فيهيم بها، وتبسم له فتذكي و جده .
هنا يتم الفصل الاول من الحب في كل زمان و مكان ، فصل اللقاء والخلوة بالحبيب فقلما يحظى به شاعر يعيش في محيطنا .
عند هذا الفصل يكون الشاعر في هذا المحيط قد بلغ الاوج في حبه ، فيبدأ بالشكوى و البكاء . يبكي لانه لم يرتشف رحيق الحب ، و يشكو لان العواطف عنده متدفقة بلا غاية ، تفني بعضها بعضا و في هذه الفترة يرى الحب لذي لم ينعم به ماضيا جميلا لو قارنه بحاضره ، ويرى فيه اقصى ما يدركه الشاعر في الحب ثم تتحجر عنده الشكوى فتنقلب حرمانا يقض مضجعه و ينغص عيشه ، فيتخيل طيف الحبيب زائرا لواعجه وينعم بقربه حينا .
و الحرمان عند الشاعر صحراء مجدبة لا ماء فيها و لا شجر و كل ما يناله منها سموم محرقة و رمال تحجب عنه الشمس و هكذا يطوي السنين و هو مقيد بالحرمان هذه هي حقيقة و جدتها عند اغلب الشعراء .
فلم اجد شاعرا ضاحكا في حبه ، يغني لجمال الحياة المجسم في جمال الحبيب ، ولم اعثر الا قليلا على قصيدة غرامية خالية من دمعة او حرقة او صدى . وقلما قرأات قصيدة غرامية ضاحكة .
يستدل مما ذكرت ان الحرمان هو الدعامة الوحيدة التي يقوم عليها الغزل و بين يدي الان ديوان ضخم لشاعرنا الجليل الزهاوي ، طالعته لاستلخص بحثا عن الحب ، وهذه ناحية مهمة في الشعر فلم اجد الا الفصل الاول من رواية الحب الذي يعقبه الحرمان .
اطعت الهوى فيك مستسلماً
و من شام عينيك يستسلم
ستدرس بعدي صروح الهوى
و تبقى المعالم و الارسم
هذا الفصل الاول من الحب ، فقد رآها و استسلم لحبها .
يقول :
نظرت الى عفراء عشرين مرة
فما غضبت عفراء من نظراتي
و يقول :
ازور ليلي اليها الوجد يدفعني
و ان حظي من ليلى هو النظر
و يقول :
ازورها بين اصحا بها ولا اتروى ارى سماء و لكن لا استطيع علوا الا ترى معي ان الشاعر نظر الى فتاة فاحبها ؟
ثم ياتي الدور الثاني دور الوجد والنوى
نأت بي عن ليلى نوى لا اريدها
فمالي الى ليلي سوى اللفتات
ويقول :
مشت و مشى قلبي المتيم خلفها
يقبل آثار الخطى حيث تنهج
و يشتد بالشاعر الوجد والهيام فيخاطب طيفها ، و للزهاوي ابيات كثيرة في الطيف منها :
ابيت في الدار وحدي
معاتياً لخيالك
و يقول :
قد اتاني طيف ليلى ليلة
يعد صد و الدجى معتكر
فتغانقنا على طول النوى
وكلانا حالف معتذر
فمضى الطيف ولى هاربا
وهو يلوي و لا ينتظر
ويقول :
طيف الحبيبة قد اتى
في الليل يسمح بالوصال
يا طيف انت اليوم
رب من سعاد الى النوال
و يقول :
ارسلي يا ليلى اذا شئت طيفا
ليرى من فرط النزوع نزاعي
ثم ياتي دور الحرمان القاسي :
اني بحبك يا ليلى لا محالة هالك ثم يختيل ان شبابه ضاع :
ساءلت شيخا قد تحد
بما تفتش في التراب
فاجابني متأوها
ضيعت ايام الشباب
و اذا ذكر شاعرنا بعض مواقف اللقاء الحبيب ، فهناك بكاء و عتاب و هذا صدى للحرمان بل وسيلة لتخدير الم وقعه في قبله . يقول :
عانقتها بعد برح من الهوى و الولوع و في العناق تلاقت دموعها بدموعي
و يقول :
تلاقينا تعانقنا كلانا ضاحك باكي كلانا واجد راض كلانا شاكر شاكي هذا هو اللقاء ، وله في هذا الباب شعر كثير يختلف قوة وهداوة في الاندفاع . و بعد ذلك ترى الشاعر يرفع الستار عمن يحب فاذا بالحبيب هو الوطن العزيز :
و اعني بليلي موطنا ما ذكرته
على البعد الا كان دمعي له تدفق
و هنا تجد الحرمان ياخذ اتجاها اخر تجده يجعل الحبيب و طنا تعذب من اجله و شقي ليسعده وقد حدث هذا الاتجاه عندما عزم شاعرنا على الاقامة في مصر فلم يجد الا الوطن حبيبا يعاتبه و يودعه و يبثه شكواه . ثم اصبح هذا الحرمان صورة مصغرة لما يقاسيه في وطنه ، وهنا بكي بشعره على ما يعانيه اديب مثله فقال :
ان مت تحزن في العراق احبة
حينا و تفرح في العراق اعاد
هنا يحق لنا ان نقول ان شاعرنا الجليل صور ما يعانيه كل شاعر في حبه ، وهذه حقيقة تنطبق على جميع شعرائنا في هذا العصر .
و سوف تطالع الاجيال القادمة شعر الزهاوي و سترى شعره في الحب صورة حقيقية لحالتنا الحاضرة ، عبر عنها اصدق تعبير و تفنن فيها ماشاء ان يتفنن .
" م. ل "
*نشرت في مجلة "الحاصد" التي ترأس تحريرها الاديب المحامي أنور شاؤل في العدد 38 بتاريخ 2 نيسان عام 1936